مقال: ‘حتى نلتقي - كادوك ‘ - بقلم : يوسف أبو جعفر
قلّما أحاول انتقاء الكلمات، ليس لصعوبة النص، بل لأتفادى التفسيرات المرهقة والمطوّلة. لكن هذه المرة، قررت أن أترك للقلم حرية اختيار الكلمات، دون تنقيح أو ترقيم مفرط. ففي لُبّ الحياة، يجب أن يدرك حتى القلم
أنه مطالب بوضع النقاط على الحروف، لا مرة واحدة، بل مرتين: الأولى لأنه واجبه، والثانية لأن بعض الكلمات بلا نقاط تُصبح مبهمة.
لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني كلمة فرنسية منذ أيام. كثيرة هي الأحداث والأشخاص الذين تستحقّ مواقفهم هذه الكلمة. ليس لأن لغتنا العربية تفتقر إلى ما يعادلها، بل لأن وقعها بالفرنسية يحمل نغمة أشبه بقرع الطبول؛ إعلان صريح عن نهاية شيء ما.
دخلت هذه الكلمة إلى وعينا السياسي من باب الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، عندما سُئل الرئيس ياسر عرفات عن الميثاق الوطني الفلسطيني. يومها، والعالم بأسره يحاول أن يفهم إلى أين نتّجه، أجاب بكلمة فرنسية: Caduc (كادوك). ذهب المفسّرون إلى القواميس السياسية والدبلوماسية بحثًا عن معناها، بل تجاوز البعض ذلك محاولًا فهم ما وراء الكلمة: لماذا اختارها؟ وهل كان يتهرّب أم يجيب بصدق؟ لا أدري، وربما لا يعرف أحد الجواب اليوم. لكنه كان يقول الكثير، حتى لو لم تسعفه الكلمات.
فكّرت: كم من موقف في حياتنا هو caduc؟ كم من شخص؟ كم من وظيفة؟ البشر لا تنتهي صلاحيتهم أبدًا. حتى بعد موتهم، يعيشون فينا، يتنفسون بداخلنا، ويتخذون قرارات وهم أموات. لذلك، لا نجد في الإنجليزية مثلًا كلمة تعبّر عن هذا المعنى بدقة. Expired لا تفي بالغرض. نبحث عمّا يُلغي، يُنهي، يُبطل — كلمة تحمل وقع الرحيل غير المُعلن.
انظروا حولكم جيدًا: كم من “أهل الكادوك” ما زالوا على قيد الحياة؟ يتمسّكون بالبقاء، يرفضون الرحيل، ولا يدركون أن وقتهم قد مضى. كم من الأحداث والمواقف كذلك؟
إن التمسّك بما فات أوانه هو الجهل بعينه. فصراعنا الداخلي دائمًا بين أمرين: أحدهما ضروري لا يمكن التنازل عنه، والآخر ثانوي تجاوزه الزمن وتغيّرت معطياته. لذا، لا بد من مراجعة حياتنا، أشخاصها وأحداثها، لنعرف كم caduc يحيط بنا.
طلاقٌ caduc بين زوجين لا يعني اختفاء الطرفين؛ قد يبقى بينهما أولاد، وربما علاقات. لكن الزواج انتهى. تلك العلاقة لم تعد. من هذا المثال قِس الأمور: ستكتشف كمية “الكادوك” في حياتك — تلك التي كانت، وتلك التي ينبغي أن تُلغى، لنتمكن من الانطلاق من جديد.
فقط الأنبياء — في نظري — وفئة قليلة من البشر بصفة دينية أو فلسفية، يستمرون بيننا. لا تنطبق عليهم “كادوك”. المشكلة الأساس تكمن في من لا يفهم أنه أصبح “كادوك”. هنا يصبح الأمر مبتذلًا ورخيصًا جدًا، ويصبح الصراخ في وادٍ سحيق يأتي بصدى وضجيج، ولكن دون جدوى.
كيف نُميّز الأحداث والأشخاص؟ وما نحن فاعلون أمام هذه الظاهرة؟
كلٌّ منّا لديه الخيار أن يُلغي علاقات؛ أحيانًا الزمن كفيل بذلك. الفرق الوحيد أن هناك من يُحفَظ في الذاكرة في مكان جميل، وهناك من يخرج حتى من كلّ الذاكرة.
وحتى نلتقي، من الأفضل أن يتفحّص الواحد منّا نفسه. ربما عليه الانصراف قبل أن يُصبح “كادوك”.
ربما أن نعيد حساباتنا، نحن من عليه أن يصيح: كادوك!
ربما نحن بحاجة لكتابة جديدة لعلاقاتنا، بانطلاقة جديدة، بفكر جديد.
ولكن الحذر، الحذر من الوقوع في دوّامة الخجل. لا يمكنك أكل طعام قد انتهت صلاحيته ولديك أطيب الطعام. الطعام الفاسد مكانه القمامة. ولنحذر كل الحذر من الخطأ: أن نرمي الصالح ونُبقي الفاسد، فنكون كمن يرمي ذهبًا ليحفظ ترابًا
من هنا وهناك
-
‘ دهشة مقدسيّة ‘ - بقلم : حسن عبادي من حيفا
-
مقال: ‘ترامب: أحبه ويُحبني وتُحب مصالحه تحالفي‘ - بقلم : أحمد سليمان العُمري
-
مقال: الخطايا الثلاث لمرشح الانتخابات - بقلم : اسعد عبدالله عبدعلي من العراق
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي.. عسل
-
المحامي زكي كمال يكتب : ترامب .. بين قيادة العالم وجرّه إلى الهاوية
-
‘لم يكن بالإمكان أفضل مما كان‘ - بقلم : وسام بركات عمري
-
الحسّ الأنثوي في رواية ‘رحلة إلى ذات امرأة‘ للروائية المقدسية صباح بشير - بقلم : علاء الأديب
-
‘ في ذكرى وفاة أبي: لا عزيز ينسى ولو مرّ على وفاته ألف عام ‘ - بقلم : الكاتب أسامة أبو عواد
-
‘ أرجوحة ماغوطيّة ‘ - بقلم : حسن عبادي من حيفا
-
‘ تغيير الواقع ‘ - بقلم : د. غزال ابو ريا
أرسل خبرا