logo

برامج متجددة في ظاهرها، متكرّرة في مضمونها: حين يغيب التجديد عن جهاز التربية والتعليم

بقلم: منال غانم مصطفى
14-05-2025 05:26:37 اخر تحديث: 14-05-2025 05:37:03

كثيرًا ما نتلقّى كمعلّمين في المدارس نشرات رسمية من وزارة التربية والتعليم تحمل عناوين مثل: "خطّة التعليم الجديدة"، "برنامج تعليميّ متجدد"، وغيرها من الشعارات التي توحي بأنّ تحوّلًا جوهريًا ينتظر المدارس والعملية التعليمية.

منال مصطفى - صورة شخصية

غير أن الميدان التربويّ، وهو الحَكم العادل والوحيد على فاعليّة هذه البرامج، يشهد بوضوح على أنّ ما يُقدَّم لا يعدو كونه إعادة صياغة لنفس البرامج السابقة، بتركيبة لغويّة مختلفة، وتصميم جداول جديد، دون مساس حقيقيّ بجوهر العملية التعليمية، أو محاولة صادقة لفهم واقع المدرسة والطالب.

إنّ التجديد، وإن بدا شكليًا، يفتقد في جوهره إلى مضمون حقيقيّ. قد تُحذف جمل أو تُضاف أخرى، تُستبدل مصطلحات، ويُعاد ترتيب محاور، وربّما تزداد الخانات وتُحسَّن النبرة البلاغية. ولكن عندما يصل المعلّم إلى الصف، ويشرع في تنفيذ هذه "البرامج الجديدة"، يدرك بسرعة أنّها ليست سوى ما تمّ تطبيقه في العام السابق، وربّما في العام الذي قبله. فلا جديد في الفكرة، ولا اختلاف في النهج، ولا انسجام مع التحديات المتجددة التي يعيشها الطالب والمعلّم اليوم.

الخطير في الأمر أنّ هذا التجديد الشكليّ يُسَوّق على أنه ثورة تعليمية، وأنّ الوزارة قدّمت شيئًا مبتكرًا، في حين أن كلّ من يلامس الواقع التربويّ يعلم أنّ المعاناة ما زالت هي هي، وربّما تتفاقم مع تكرار السياسات التي ثبت عدم جدواها.

أتساءل مليًا كمعلّمة لموضوع رئيسيّ: أين الطالب الغائب في "البرامج الجديدة"؟ في الوقت الذي يُفترض فيه أن الطالب هو محور العملية التعليمية، نُفاجأ بأنّ صوته غائب تمامًا عن طاولة التخطيط. من يُعدّون البرامج لا يزورون الصفوف، لا يجلسون مع الطلاب، ولا يستمعون لهمومهم أو تطلّعاتهم. البرامج تُبنى على فرضيات قديمة، لا تمتّ بصلة لما يجري في واقع الحياة اليومية داخل المدارس، أو تُصاغ بناءً على نتائج امتحانات قامت بها الوزارة، قيّمت الطلّاب على أساسها وبنت برامج لا تُشبههم.

في حين أنّ طلّاب اليوم يعيشون في عالم رقميّ، تفاعليّ، تُصاغ اهتماماتهم عبر أدوات مختلفة تمامًا، تُصرّ البرامج على تعليمهم بنفس الآليّات والمضامين التي فُرضت عليهم لعقود. وهكذا، يصل الطالب إلى المدرسة بحالة من الفتور واللامبالاة، لأنّه ببساطة لا يرى في ما يُقدَّم له ما يمسّ حياته، أو يتحدّى تفكيره، أو يشجّعه على التفاعل والتعلّم.

ومن خلال دراستي لأحد المناهج التعليمية الرسمية التي أُرسلت للمدارس العربية وتحديدًا عند مقارنة البرنامج التعليمي العامّ مع وثيقة "تركيز التعليم والتعلُّم لعام 2024-2025" وجدت أنّ ما يُقدَّم للمعلّم ليس إلا امتدادًا للنمط نفسه الذي نحاول تجاوزه. فرغم استخدام عبارات حديثة مثل "أهداف مرحليّة"، و"تخطيط مرن"، إلا أنّ جوهر المحتوى ما زال يتكرر كما هو، بفارق بسيط في المصطلحات وترتيب المحاور.

يبدو أنّ التركيز الجديد جاء ليكون أداة تطبيقية مستندة إلى ما جاء في البرنامج الأصليّ، لكنه لم يبتكر مضمونًا حقيقيًا يُخاطب الواقع المتغيّر للطالب. فالمهارات التي يتمّ التأكيد عليها، مثل المحادثة، الفهم السمعيّ، والقراءة، لا تُطرح ضمن سياقات تهمّ الطالب فعلًا، ولا تأخذ بعين الاعتبار التغيّرات الرقمية والتفاعلية التي يعيشها الطالب يوميًا خارج المدرسة. يُدرّس الطالب في عالم رقميّ بوسائل تقليديّة، ويُقيَّم بمنهجيّات لم تعد تُقنعه أو تحفّزه.

إنّ هذا التناقض بين المظهر الحديث للمناهج والمضمون المتكرر لها، يُرسّخ الإحباط عند المعلّم، والاغتراب عند الطالب. فكيف نُقنع الطالب بالاندماج في تعليم لا يراه يُشبهه؟ وكيف نحمّل المعلّم مسؤولية تنفيذ "برامج متجددة" لم يُدعَ هو أصلًا للمشاركة في صياغتها؟

أضف إلى ذلك، أن طول اليوم الدراسيّ من أبرز المشكلات التي يعاني منها الطلّاب، خاصة في ظلّ غياب التجديد. فمنذ ساعات الصباح الأولى وحتى نهاية الدوام، يتنقّل الطالب بين حصص متشابهة، ونشاطات تُعاد وتُكرّر، ومضامين لا جديد فيها. بدلًا من أن يكون اليوم المدرسيّ فسحة للمعرفة، ومنصة للإلهام والتفكير، يتحوّل إلى عبء ثقيل، تتراكم فيه المهامّ دون روح، وينتهي دون أثر يُذكر.

بنظري ومن واقع أُعايشه خلال عملي، إن تمديد اليوم الدراسيّ دون تجديد حقيقي في المضمون لا يُنتج طالبًا أكثر وعيًا، بل يُنتج طالبًا أكثر تعبًا ونفورًا من المدرسة.

ومن هذا المنطلق، وانطلاقًا من قناعتي أن النقد وحده لا يكفي دون اقتراح حلول قابلة للتطبيق، أقدّم هنا تصورًا يمكن أن يكون واقعيًا في تدريس اللغة العبرية في المدارس العربية، مستندًا إلى تجربتي الشخصية كمدرّسة لغة عبرية أتعامل مع طلاب بشكل يوميّ ومدركة احتياجات الطلّاب:

اللغة كأداة حياة: "وحدات تفاعلية من واقع الطالب"
الفكرة تقوم على بناء وحدات بحث قصيرة تدور حول مواضيع حياتية قريبة من الطالب، مثل: "قصة من حيّي"، "أكلة من بيتنا"، " قصة نجاح " وغيرها. في كلّ وحدة، يُطلب من الطالب تنفيذ مهمّة تواصلية حقيقية مثل تسجيل فيديو، كتابة نصّ قصير، إجراء مقابلة، أو تقديم عرض باستخدام العبرية، لا بوصفها لغة للامتحان، بل كأداة للتعبير والتواصل.

بهذه الطريقة، يتحول الطالب من متلقٍ سلبيّ إلى منتِج نشِط للغة. ويصبح التعلُّم مرتبطًا بهويته وواقعه، لا بنصوص بعيدة عن حياته. كما يُتاح للمعلم أن يُشاهد تطورًا حقيقيًا في أداء الطالب، ويُقيّمه بناءً على وضوح التعبير، الجرأة، الاستعمال السليم، وجودة الرسالة، لا فقط على قواعد جامدة.
هذا المثال أو النوع من التجديد لا يحتاج ميزانيات هائلة، بل إرادة تربوية صادقة. يكفي أن نغيّر زاوية النظر، ونتوقّف عن اعتبار الطالب آلة حفظ، لنبدأ في رؤيته كمتعلّم له صوت وحياة وتجربة تستحق أن تدخل غرفة الصف.
- من هنا أقول إنّ التجميل لا يعالج الخلل!

من السهل أن نُضفي على البرامج التعليمية لغة جميلة، وأن نُنتج كُتيّبات ملوّنة، وأن نُقيم دورات لتفسير هذه البرامج بلغة إنشائية. لكنّ هذا كلّه لا يُغني عن الحاجة العميقة إلى إعادة نظر جذرية في مضامين التعليم، وأسلوب بنائه، والفئات التي تُشارك في صناعته.

المعلّم، وهو الحامل اليوميّ لهذه البرامج، يُترك وحيدًا في مواجهة التكرار، وفي إقناع الطلّاب بما لا يقتنع به هو نفسه. أما الطالب، فغارق في مللٍ لا ينقطع، يجلس في الصف جسديًا، لكنّه منقطع ذهنيًا وروحيًا عمّا يُقال.

ما الذي نحتاجه فعلًا؟
الاعتراف أولًا بالفجوة: لا يمكن إصلاح ما لا نُقرّ بوجوده. يجب أن نعترف أن برامجنا لا تُحدث الأثر المطلوب.
إشراك الميدان: لا برامج تُكتب من خلف المكاتب. يجب إشراك المعلمين الطلاب، وأولياء الأمور في صياغة البرامج وتقييمها.
تجديد المضامين، وليس فقط الأشكال، نحن بحاجة لمضامين تربوية حديثة، تُخاطب عقل الطالب وروحه، وليس فقط تركيب خانات جديدة أو عبارات منمّقة.
تقليص اليوم الدراسيّ، وتكثيف جدواه: بدلاً من الإطالة الزمنيّة، يجب التركيز على جودة التعلّم وأثره.
تعزيز المهارات الحياتية: يجب أن تتضمن البرامج مهارات التفكير النقديّ، الإبداع، العمل الجماعيّ، ومواجهة الواقع، وليس فقط نقل المعلومات.

لن يكون هناك تغيير حقيقيّ في واقع التعليم ما لم نكفّ عن خداع أنفسنا بالتجديد الشكليّ، وما لم نواجه بجرأة أن هناك أزمة في التخطيط، وفي الإصغاء، وفي الجرأة على التغيير الفعليّ. إنّ الطالب اليوم ليس كطالب الأمس، وعصر اليوم ليس كعصر الأمس، ومن الظلم أن نطالبه بالاندماج والحماسة لبرامج تكرّر نفسها، وتستنزف يومه، دون أن تمنحه ما يستحقّه من المعنى والابتكار.

آن الأوان أن نُعيد التفكير، لا فقط أن نُعيد الصياغة.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il