logo

‘ حتى نلتقي: أنا خيرٌ منه ‘ - بقلم : يوسف أبو جعفر

بقلم : يوسف أبو جعفر
16-05-2025 07:01:03 اخر تحديث: 17-05-2025 05:08:23

بطر النعمة إذا قُرِن بغرور النفس مهلكة، ويقابل ذلك التواضع وبساطة العيش والحكمة. لذلك، تزداد أواصر المحبة أو تقلّ عند المحن، لأن المحن تكشف طبائع النفوس، وتُظهر النفس على حقيقتها، فلا تعود تختبئ خلف مظاهر النعمة.


يوسف ابو جعفر - صورة شخصية

أصدقاء المحنة أوفى من أصدقاء النعمة، ليس شعارًا بل واقعًا؛ فما أكثر الأحباب على الأبواب، وطاولتنا مليئة بالشراب، وما أقلّهم عند الشدة، حين تغيب عن طاولتنا ما لذّ وطاب.

ومن أصدق القول أن بطر النعمة أنسانا جميل التواصل، وأحيا في داخلنا غرورًا كبيرًا، بسؤال غريب عجيب: من نحن؟ ومن هم؟ من أنا؟ ومن أنت؟ مفاضلة غريبة، أقلّ ما يُقال عنها إنها نتنة، وأعلاها الكفر، والعياذ بالله.

لماذا هذه المقدمة؟ لأن مصائبنا لا تأتي في صيف وتغادر شتاءً، بل قررت أن تعيش بيننا. تعوّدنا عليها، حتى طغى صوتها على أصوات العقل. “من أنا ومن أنت؟” أضاعت أكبر خطيئة، وأول معصية معروفة لنا: “أنا خيرٌ منه”.

علماء العصر الحديث أبدعوا في محاولة فهم غرور النفس، وأطلقوا عليها مسمّيات كثيرة، أشهرها “الإيغو”. وأنا أرى فيه تسمية غريبة وغير مقبولة، لأن اكتساب مصطلح في هذا الموضع بالذات يعزز من حجم المأساة. فنحن نتكلم عن النفس، وعندما نعطيها كلمة بعيدة عن واقعها، إنما نعطيها حجة وافتراضًا أن هذا لا يتعلق بها. فعندما أقول لعربي: “الإيغو عندك عالٍ”، ليس كمن يقول له: “غرتك نفسك”.

مصائبنا من الخطيئة الأولى ظاهرة للعيان في كل درب؛ أوجدت في داخلنا طبقية مزيفة، تعيش في غرفٍ مظلمة، أو في هوامش المجموعات، وأحيانًا في مركز الأحداث.

فعنصر الشر الأول “أنا خيرٌ منه” أصبح سائدًا، وأعطى شرعية مزيفة للقتل، والسرقة، والتشغيل القسري، والخاوة، والفساد، ولكل سلبي. وأضعف التسامح، والعفو، والغفران؛ ولذلك انتشر مبدأ “العين بالعين، والسن بالسن”، فطلقة بطلقة، وصلية رصاص بمثلها، وهكذا دواليك.

إذا أدركنا حجم “أنا خيرٌ منه”، ندرك مباشرة أننا لا نُربي الأبناء على الطريقة السليمة. وإن كنا نُعلِّم، فإننا لا نُربي، ولا نُؤدب بما يحتاجه الناس منا. فلذلك ترى التناقضات واضحة؛ فالمسؤول لا يرى حرجًا في أن لا يعدل، ولا حرج في إعطاء غير ذي حق ما لا يستحق. حتى ولو تكلمنا بكل مواضيع المساواة، لا مجال لتغيير الواقع.

هناك حاجة حقيقية لتطبيق “الناس سواسية” قولًا وفعلًا. ولا أُخفيكم سرًا إن قلت: إننا في مدارسنا ومؤسساتنا لا نُطبِّق ذلك، بل العكس هو الصحيح؛ نحن نُعزِّز الاختلاف، ونجعل منه وسيلة للوصول إلى الأهداف. لقد سوّغنا العلم لذلك، بل وأكثر، ربما نجد من يعتقد أن الموضوع هو فقط مشكلة نسب أو زواج، خصوصًا في المجتمع البدوي. إلا أني أرى ذلك الحاجز الأول فقط؛ فالنفس أمّارة بالسوء، رغم أنها جُبلت على الخير.

لذلك، السؤال الحقيقي: هل أنا بحاجة إلى علماء وأطباء ومهندسين، ولدي مجتمع يزخر بالجهل القيمي، ويلتحف التخلف، مشوّهًا بمظاهر بطر النعمة؟ أم نتوقف لنُربّي جيلًا مخلصًا لمبادئ العدل والإنسانية، وفي المقام الأول: قيمة الإنسان، التي غابت من المعادلة؟

وحتى نلتقي، أنا مع إعادة التربية في مدارسنا، رغم أنف الوزارة؛ فلست بحاجة إلى علماء وأدباء يتشبعون بالخيلاء، وينسون أننا نصارع على وجودنا، على قيمنا، على حضارتنا، على كل شيء جميل تدمره “أنا خيرٌ منه”.